فخامة الرئيس غبطة البطريرك

19 تشرين الأول 2007  -  جوزف الخوري

آسف، متأسف وشديد الأسف سلفاً ومن القلب، عن كل كلمة قد تفهم بغير موقعها في ما سوف يلي: 
منذ نشأتي المسيحية والمارونيّة تحديداً، أسمع، أرى وأعاشر رجال دين ومسؤولين كنسييّن، من بينهم من يشبهني ومن بينهم، من يشبه أخصامي في التوجه السياسي العام. هذا كان ولا يزال مقبولاً مني، لأن رجل الدين هو بشر في النهاية. 
أما في قرارة نفسي، فكنت أشعر بنوع من اتفاق موضوعي وضمني بين الجميع وهو أنّه، في حالة الاختلاف الحاد، فان أبينا سيدنا البطريرك، هو الآمر الناهي وبه تستقيم الأمور. 
كان هذا الاتفاق الموضوعي والغير معلن، يشكّل نوعاً من الضمانة المعنويّة لدى جميع الأفرقاء وهو شيء حميد ومطلوب بشدّة. إلا أنني بدأت أشعر ومنذ العام 1988، بتبدّل غريب تجاه أبينا.
في العام 1989 وأثناء حرب إلغاء الدولة على يد ميليشيا، وقف أبينا وسيّدنا مساوياً بين الجيش الوطني وبين الميليشيا، بحيث كان يوجّه نداءاته إلى الطرفين لوقف الاقتتال، مما سمح لقيادة الميليشيا باستكمال حربها على الجيش وكأنها مباركة من سيّدنا! (بالمقارنة مع البارحة في أحداث نهر البارد مثلاً، ماذا لو طلب البطريرك من الجيش اللبناني وفتح الاسلام بالتساوي، بوقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار؟ أكان هذا مقبولاً يا ترى؟) 
في 13 تشرين الأول من العام 1990، وجدت أبينا وسيّدنا يقف إلى جانب المحتلّ الغاصب للمناطق المحرّرة في بيروت الشرقية، كسروان وجبيل، بحيث اعتبر معركة "الاحتلال" هذه وكأنها لإزاحة كابوس أسود عن كاهل المناطق المحرّرة. فإذا به يوحي لي بأنه يبارك الاحتلال! 
انتظرت من العام 1990 حتى 20 أيلول من العام 2000، حين صدر بيان المطارنة الشهير، لكي أسمع وأخيراً، بكلمة تدين الاحتلال بالاسم وترفع الصوت عالياً لما أصاب اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً، من مفاعيل سلبيّة للهيمنة الحريرية-السورية المشتركة على لبنان. فكان بياناً مقبولاً ومرحّباً به من العديد من الأطراف الحرّة والمتحرّرة. ومن خلال هذا البيان، نصّب أبينا نفسه مدافعاً عن حقوق المغبونين من مسيحيين وغير مسيحيين، وكأن به، قد أزاح سنوات النضال والقهر للأطراف الحرّة الأخرى منذ العام 1990 إلى 2000 وأخذ عنهم ومنهم المبادرة. 
بعد استكمال التحرير في العام 2005 وجد أبينا نفسه في جهة التشريع وطالب بقانون انتخاب عادل يجيز للمواطن انتخاب حقيقة من يمثّله، فضغط باتجاه وزير الداخلية المسيحي، سليمان فرنجية آنذاك ونجح بإتمام اعتماد قانون القضاء وبالرغم من عدم موافقة سوريا وبعض حلفائها من اللبنانيين في تلك الحقبة. 
أما المفاجأة الكبرى، فكانت باعتماد قانون كنعان-الحريري نفسه وبطلب من أكثرية مسيحيي "قرنة شهوان" السياديين الجدد، متجاوزين بذلك رغبة أبينا. 
ظننت لوهلة بأن الأب الضابط الكل ومن موقعه الرعوي والسياسي، سوف يعلن عن كيف أنّ من هو متّهم بحليف سوريا، أي سليمان فرنجية، قد خالف إرادة السوري ومشى بقانون القضاء تلبية لرغبة الأب وكيف أنّ من هو في العلن ينادي بالسيادة والحرية قد طالب بقانون اللا سيادة واللا حرية وقد خالف بذلك رغبة الأب. إلاّ أن أبينا قرر أن يصمت صمتاً مريباً! 
ثم أتت النتائج واجتاحت لوائح تكتل التغيير والإصلاح جميع المقاعد المسيحية في المتن وكسروان-جبيل، كما وحصدت أكثرية الأصوات المسيحية في بعبدا-عاليه وفي الشمال. إلا أن المقاعد في تلك الدوائر، قد فاز بها مسيحيّو "الذمّة" بأصوات غير مسيحية. صعد أبينا من بعدها وتلا بياناً يعلن فيه بأنّه قد أصبح لكل طائفة زعيمها السياسي. عمّ الفرح قلوبنا وهلّلنا ابتهاجاً لأنه وأخيراً، سوف يأتينا رئيساً للجمهورية، نابعاً من إرادة مسيحية أكثرية، يعيد التوازن إلى النظام السياسي في البلد، كما حصل تماماً مع إخواننا الشيعة والسنة في مراكز الدولة الأولى لهم. 
إلا إننا ومرّة جديدة، نصاب بنكسة أشدّ وطأة من تلك التي أصابتنا في 13 تشرين الأول من العام 1990. فظلّ أبينا يراوح مكانه وينصت إلى داوود الصايغ (مستشار الحريري) قبل كل اجتماع شهري للمطارنة، ويصغي إلى جورج عدوان ونايلة معوض وبعض النواب المسيحيين الذين انتخبوا بأصوات غير مسيحية، كما وظلّ أبينا يميّع الفوز المسيحي ويتكلّم عن انقسام في البيت المسيحي، بحيث أنّه قد ساوى بين من حصل على 73% من الأصوات المسيحية ومن حصل عل 9% من تلك الأصوات مثلاً! كانت هذه ديمقراطية سيّدنا وأبينا ووجد بأن 9% إضافة إلى بعض المتفرّعات من المئة مجموعين، تعادل 73% وأصبح يعمل للمّ الشمل لأن هكذا انقسام غير صحيّ وغير مفيد للمجتمع المسيحي!! 
ظننت لوهلة بأن رسالة الأب المتسامح مع أبنائه حتى ولو ضلّوا طريقهم، هي التي تملي على أبينا أخذ تلك المواقف. ومن موقع المسيحي المؤمن قبلتها وعضّضت على جرحي. إلا أنني وعندما أسمع بيانات المطارنة الشهرية تدافع عن حكومة هي نفسها منذ 17 عام، قد أفقرت اللبنانيين وبعثت فساداً في جميع إدارات الدولة، وخالفت الدستور والمواثيق والأعراف، وفي نفس البيانات الشهرية أرى انتقاداً لاعتصام في خيم لا تشكّل مساحته سعة موقف سيارات، أجد نفسي بعيداً كلّ البعد عن فكرة الأبوة العادلة، المتسامحة والتي نحن المسيحيّون، نؤمن ونحيا بها. وعندما أسمع عن لسان أبينا في قوله للرئيس برّي بأنه يريد رئيساً لا من هذه الجهة ولا من تلك الجهة، أجد نفسي في جوّ يسهّل علي أن أقترح حلاًّ قد يرضي الجميع وهو كالتالي: بما أن رجل الدين إنسان أولاً وأخيراً، فمن الطبيعي أن يكون لديه طموح باعتلاء مراكز عليا في الشأن العام. ولأن البطريرك الماروني في مرحلة ما، قد قام مقام رئيس الجمهورية المسيحي وأخذ مكان النواب والوزراء المسيحيين، بحيث تأتيه الوفود والشكاوى من كل حدب وصوب، ولأن البطريرك الماروني في مرحلة ما، قد استقبل بحفاوة من كبار رؤساء الجمهوريات في العالم كجورج بوش وجاك شيراك مثلاً، الأمر الذي لم يحصل يوماً للمفتي قبلان او للمفتي قبّاني، لأنهم ممثلون سياسياً ببري والحريري، فمن السذّاجة بمكان أن نطلب من هذا البطريرك الماروني تسمية رئيس جمهورية ماروني يمثل نبض الشارع المسيحي والأكثرية الشعبية اللبنانية؟ 
التاريخ الحديث خير شاهد على فكرة السذاجة تلك. فمن أدخل المحتلّ في العام 1990 إلى المناطق المسيحية الحرّة وتغاضى عن المجازر الجماعية بحق الجيش اللبناني والمواطنين الأبرياء، ليس الجيش اللبناني. ومن اختلق قسمة وهميّة بين المسيحيين ليبقى هو المرجع، ليس هم المسيحيين الأقليّة في 14 آذار فقط. ومن لم يعلن لماذا رفضت الأقليّة المسيحية الموجودة في الأكثرية الحاكمة تطبيق ثوابت بكركي وتوقيع ميثاق الشرف، ليس هؤلاء فحسب، إنما من غطّاهم ولم يعلن بأنهم عصوا كلامه. 
إن من لم يذهب بانتخابات المتن إلى التوافق وبحسب ما أوهمونا به، بأن التوافق هو إرادة الأب، لم يكن الفريق الفائز بالانتخابات وإنما من سقط بهذه الانتخابات ولم يعلن أبينا حتى هذه اللحظة، بأن هذا الفريق هو من رفض الوفاق. 
بناءً عليه وعلى كثير من المواقف والشواهد التي إذا راجعناها بحكمة وتجرّد، نجد بأنه لا سبيل لدينا سوى تسمية غبطة البطريرك الماروني، ليكون رئيساً للجمهورية اللبنانية. فهو توافقي بامتياز وبوصوله إلى ذلك الموقع، يكون قد جنّب المسيحيين انقسامات "وهميّة" أخرى ويكون من موقعه كانسان أولاً، حقّق ذاته وأصبحت لديه بعض القدرات التنفيذية لحل شكاوى المواطنين وليس فقط بتلاوة البيانات الشهرية. 
أرجو أن لا يكون هنالك من موانع كنسيّة لتبوّء مركز رئاسة الجمهورية وان يصل اقتراحي هذا للجهّات المعنية وأن يعملوا به تفادياً لأية مشاكل قد تحدث لوطننا العزيز لبنان. 

Comments

Popular posts from this blog

كل الحق عالـ 7-1 ، وصلت إلينا ونقشت!

عن المنع والمقاطعة